يتبدّل دويّ القنابل في غزة إلى أزيز الطائرات المسيّرة، وإطلاق النار العشوائي على الحواجز، وصمت المستشفيات التي توقفت عن الشفاء. الهدنة التي احتفى بها الوسط الدولي الشهر الماضي تسقط على القطاع مثل غبار خانق، تُسكِت بعض الغارات الجوية لكنها لا تُنهي الاحتلال. وتقول الكاتبة "نور العاصي": "في منفاي بباريس، أستيقظ كل صباح على رسالة واحدة من عائلتي في غزة: "ما تخافيش يا ماما، إحنا عايشين"، لكني أخلد إلى النوم خائفة، أبعث إلى أمي وأختي الصغيرة وأصدقائي تسجيلات بصوتٍ مرتجف، وكأن البعد يعيدني إلى الجرح نفسه كل ليلة".
هدنة معلّقة فوق الرماد
الهدوء في غزة ليس سلامًا، بل مقدّمة للهدم. الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في العاشر من أكتوبر بوساطة أميركية ومصرية وقطرية، لم تُنهِ الجوع أو النزوح أو الخوف. إسرائيل تواصل قصف المدنيين وإطلاق النار في أنحاء القطاع، منتهكة الهدنة أكثر من مئة مرة، ما أودى بحياة أكثر من 240 شخصًا وأصاب نحو 600 آخرين. جرافاتها تدمّر الأبنية بالجملة، وأحياء بأكملها مثل الشجاعية وجباليا صارت محظورة الدخول. تنقل الكاتبة عن ابن عمها إسلام، الممرض في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، قوله: "يقولون هدنة، لكن المستشفيات مقابر. المرضى يموتون بصمت حين ينقطع الوقود أو حين لا نجد أطباء أو أسرّة كافية".
وهم الاستقرار الاقتصادي
رغم أن بعض المواد الغذائية صارت متوفّرة أكثر من فترات المجاعة خلال الصيف، إلا أن الغلاء يحاصر الناس من جديد. إسرائيل تسمح بدخول الشاحنات التجارية، لكنها تقيّد قوافل المساعدات. أغلب السكان بلا دخل، وأسعار السلع الأساسية تتجاوز القدرة على الشراء. الخبز نادر، والدقيق يُوزّع بالحصص، والطماطم تُباع بسعر يتجاوز أجر اليوم الكامل للعائلة. تقول أمي: "نشتري نصف كيلو ونقول كفاية". الهدنة التي لا تُعيد بناء الاقتصاد المدمّر ليست سوى قناع لاستمرار الحصار.
نسبة البطالة تتجاوز 80%، والناس تدفع عمولات باهظة تصل إلى 20% لسحب أموالها من البنوك عبر وسطاء. كثيرون أنفقوا مدّخراتهم على الخيام والمياه والبطانيات خلال شهور النزوح الطويلة. أحد الأصدقاء قال لي: "حتى لو عندك فلوس، فعليًا ما عندكش". التقديرات تشير إلى أضرار تبلغ 70 مليار دولار، فيما تؤكد الأمم المتحدة أن 81% من المباني تضررت، و61% منها انهار كليًا، و86% من الأراضي الزراعية أصيبت بالدمار. النظام الصحي ينهار، و1.5 مليون إنسان بحاجة إلى مأوى طارئ، وأكثر من 90% من المدارس لم تعد صالحة للاستخدام. الحقيقة أن غزة لم تعد قابلة للحياة، والمجتمع الدولي بالكاد يبقيها على أجهزة الإنعاش، ثم يُضيّق حتى هذا النفس.
من غزة إلى الضفة… استمرارية القمع
العائلات التي عادت شمالًا تعيش بين الركام، تستنشق الغبار ليلًا ونهارًا. العودة صارت رحلة نحو العدم، حيث يبحث الآباء عن صورهم تحت الأنقاض ويسأل الأطفال: لماذا كل شيء رمادي؟ في الضفة الغربية، الانهيار يجري بصمت أشدّ. المستوطنون يهاجمون المزارعين ويحرقون البيوت ويقتلون الماشية. يقول توم فليتشر، مسؤول الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، إن عدد القرى المتضررة هذا العام يفوق ما جرى في السنوات الست الماضية مجتمعة، وكل ذلك يجري بدعم من الحكومة الإسرائيلية. صديقي معتز من الخليل يعلق: "لما غزة تولع، بياخدوا تلالنا، ولما غزة تهدى، بيقولوا سلام".
ومع ذلك، لا ينطفئ الأمل تمامًا. كتب الصحفي إسماعيل أبو ضيّه، الذي يوثّق الحياة اليومية في غزة، كتب رسالة إلى العاضي يقول: "الهدنة تعني أنني أستطيع إرسال الصور مرة أخرى، تعني يومًا إضافيًا من التنفس، وربما هذا يكفينا مؤقتًا". في غزة، الأمل نفسه مقاومة؛ أن تُعيد نصب خيمة، أن تزرع نعناعًا في تراب محطم، أن تُعلّم طفلًا الأبجدية تحت سقف بلاستيك، كلها أفعال تحدٍّ. لكن الخوف لا يفارق الناس. أمي تقول: "إحنا خايفين نرتاح، كل ما نبدأ نتنفس، بيرجعوا يقصفوا".
هدنة حقيقية أم فاصل للقمع؟
الهدنة الحقيقية لا تُقاس بوقف القصف، بل بفتح المعابر أمام المساعدات والوقود والبشر تحت رقابة دولية فعّالة، وبإطلاق سراح المعتقلين، ووقف الاستيطان، ومحاكمة مرتكبي العنف من المستوطنين، وإعادة إعمار البنية التحتية الصحية والمائية والكهربائية كواجب قانوني لا كمنّة إنسانية. ما دون ذلك ليس سلامًا بل استراحة في حرب مستمرة.
غزة هي المشهد الدامي، والضفة هي البيروقراطية الباردة، وكلاهما تحت قبضة احتلال واحد. لا يمكن فصل القصف عن الضمّ تحت شعار "الأمن". الغموض في نصوص الهدنة مقصود، لأن السيطرة تعرف كيف تُجدّد نفسها بصمت. من ينجو من الرماد يرفض أن يحتفل بصمتٍ تفوح منه رائحة الدخان. الهدنة تُبقي الفلسطينيين أحياء، لكنها لا تمنحهم الحرية. والحرية، لا الهدوء بين غارتين، هي النهاية الوحيدة التي تستحق أن تُسمّى سلامًا.

